سورة الأعراف - تفسير تفسير النسفي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأعراف)


        


{فَمَنْ أَظْلَمُ} فمن أشنع ظلماً {مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بئاياته} ممن تقول على الله ما لم يقله أو كذب ما قاله {أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مّنَ الكتاب} ما كتب لهم من الأرزاق والأعمار {حتى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا} ملك الموت وأعوانه. و{حتى} غاية لنيلهم نصيبهم واستيفائهم له وهي {حتى} التي يبتدأ بعدها الكلام، والكلام هنا الجملة الشرطية وهي {إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا} {يَتَوَفَّوْنَهُمْ} يقبضون أرواحهم وهو حال من الرسل أي متوفيهم و{ما} في {قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ} في خط المصحف موصولة ب {أَيْنَ} وحقها أن تكتب مفصولة لأنها موصولة، والمعنى أين الآلهة الذين تعبدون {مِن دُونِ الله} ليذبوا عنكم {قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا} غابوا عنا فلا نراهم {وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كافرين} اعترفوا بكفرهم بلفظ الشهادة التي هي لتحقيق الخبر.
{قَالَ ادخلوا} أي يقول الله تعالى يوم القيامة لهؤلاء الكفار: ادخلوا {فِى أُمَمٍ} في موضع الحال أي كائنين في جملة أمم مصاحبين لهم {قَدْ خَلَتْ} مضت {مِن قَبْلِكُم مّن الجن والإنس} من كفار الجن والإنس {فِى النار} متعلق ب {أَدْخِلُواْ} {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ} النار {لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} شكلها في الدين أي التي ضلت بالاقتداء بها {حَتَّى إِذَا اداركوا فِيهَا} أصله تداركوا أي تلاحقوا واجتمعوا في النار، فأبدلت التاء دالاً وسكنت للإدغام ثم أدخلت همزة الوصل {جَمِيعاً} حال {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ} منزلة وهي الأتباع والسفلة {لأولاهم} منزلة وهي القادة والرءوس. ومعنى {لأولاهم} لأجل أولاهم لأن خطابهم مع الله لا معهم {رَبَّنَا} يا ربنا {هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَئَاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا} مضاعفاً {مّنَ النار قَالَ لِكُلّ ضِعْفٌ} للقادة بالغواية والإغواء وللأتباع بالكفر والاقتداء {ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ} ما لكل فريق منكم من العذاب. {لاَّ يَعْلَمُونَ} أبو بكر أي لا يعلم كل فريق مقدار عذاب الفريق الآخر.
{وَقَالَتْ أولاهم لأُِخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} عطفوا هذا الكلام على قول الله تعالى للسفلة {لِكُلّ ضِعْفٌ} أي فقد ثبت أن لا فضل لكم علينا وأنا متساوون في استحقاق الضعف {فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} بكسبكم وكفركم وهو من قول القادة للسفلة. ولا وقف على {فَضَّلَ} أو من قول الله لهم جميعاً والوقف على {فَضَّلَ} {إِنَّ الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا واستكبروا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أبواب السماء} أي لا يؤذن لهم في صعود السماء ليدخلوا الجنة إذ هي في السماء، أو لا يصعد لهم عمل صالح ولا تنزل عليهم البركة، أو لا تصعد أرواحهم إذا ماتوا كما تصعد أرواح المؤمنين إلى السماء، وبالتاء مع التخفيف: أبو عمرو وبالياء معه: حمزة وعلي.
{وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة حتى يَلِجَ الجمل فِى سَمّ الخياط} حتى يدخل البعير في ثقب الإبرة أي لا يدخلون الجنة أبداً لأنه علقه بما لا يكون. والخياط والمخيط ما يخاط به وهو الإبرة {وكذلك} ومثل ذلك الجزاء الفظيع الذي وصفنا {نَجْزِي المجرمين} أي الكافرين بدلالة التكذيب بآيات الله والاستكبار عنها {لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ} فراش {وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} أغطية جمع غاشية {وكذلك نَجْزِى الظالمين} أنفسهم بالكفر.
{والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} طاقتها والتكليف إلزام ما فيه كلفة أي مشقة {أولئك} مبتدأ والخبر {أصحاب الجنة} والجملة خبر {الذين}، و{لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} اعتراض بين المبتدأ والخبر {هُمْ فِيهَا خالدون * وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ} حقد كان بينهم في الدنيا فلم يبق بينهم إلا التواد والتعاطف، وعن علي رضي الله عنه: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم {تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأضنهار} حال من {هم} في {صُدُورُهُمْ} والعامل فيها معنى الإضافة {وَقَالُواْ الحمد لِلَّهِ الذى هَدَانَا لهذا} لما هو وسيلة إلى هذا الفوز العظيم وهو الإيمان {وَمَا كُنَّا} {مَا كُنَّا} بغير {واو}: شامي على أنها جملة موضحة للأولى {لِنَهْتَدِىَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله} اللام لتوكيد النفي أي وما كان يصح أن نكون مهتدين لولا هداية الله، وجواب {لولا} محذوف دل عليه ما قبله {لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بالحق} فكان لطفاً لنا وتنبيهاً على الاهتداء فاهتدينا، يقولون ذلك سروراً بما نالوا وإظهاراً لما اعتقدوا {وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الجنة} {أن} مخففة من الثقيلة واسمها محذوف، والجملة بعدها خبرها تقديره ونودوا بأنه تلكم الجنة. والهاء ضمير الشأن، أو بمعنى أي كأنه قيل، لهم تلكم الجنة {أُورِثْتُمُوهَا} أعطيتموها وهو حال من {الجنة} والعامل فيها ما في {تِلْكَ} من معنى الإشارة {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} سماها ميراثاً لأنها لا تستحق بالعمل بل هي محض فضل الله وعده على الطاعات كالميراث من الميت ليس بعوض عن شيء بل هو صلة خالصة. وقال الشيخ أبو منصور رحمه الله: إن المعتزلة خالفوا الله فيما أخبر ونوحاً عليه السلام وأهل الجنة والنار وإبليس، لأنه قال الله تعالى: {يُضِلُّ مَن يَشَآء وَيَهْدِى مَن يَشَآء} [النحل: 93] وقال نوح عليه السلام: {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34] وقال أهل الجنة: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله} وقال أهل النار: {لَوْ هَدَانَا الله لَهَدَيْنَاكُمْ} [ابراهيم: 21] وقال إبليس {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى}


{وناداى أصحاب الجنّة أصحاب النّار أن قد وجدنا} {أن} مخففة من الثقيلة أو مفسرة وكذلك {أن لعنة اللّه على الظالمين} {ما وعدنا ربّنا} من الثواب {حقًّا} حال {فهل وجدّتم مّا وعد ربّكم} من العذاب {حقًّا} وتقديره وعدكم ربكم فحذف {كم} لدلالة {وعدنا ربنا} عليه. وإنما قالوا لهم ذلك شماتة بأصحاب النار واعترافاً بنعم الله تعالى: {قالوا نعم} وبكسر العين حيث كان: عليٌّ {فأذّن مؤذّنٌ بينهم} نادى مناد وهو ملك يسمع أهل الجنة والنار {أن لّعنة اللّه على الظّالمين} {أن لعنة} مكي وشامي وحمزة وعلي {الّذين يصدّون} يمنعون {عن سبيل اللّه} دينه {ويبغونها عوجاً} مفعول ثان ل {يبغون} أي ويطلبون لها الاعوجاج والتناقض {وهم بالآخرة} بالدار الآخرة {كافرون وبينهما} وبين الجنة والنار أو بين الفريقين {حجابٌ} وهو السور المذكور في قوله: {فضرب بينهم بسور} [الحديد: 13] {وعلى الأعراف} على أعراف الحجاب وهو السور المضروب بين الجنة والنار وهي أعاليه جمع عرف، استعير من عرف الفرس وعرف الديك {رجالٌ} من أفاضل المسلمين أو من آخرهم دخولاً في الجنة لاستواء حسناتهم وسيآتهم، أو من لم يرض عنه أحد أبويه أو أطفال المشركين {يعرفون كلاًّ} من زمرة السعداء والأشقياء {بسيماهم} بعلامتهم. قيل: سيما المؤمنين بياض الوجوه ونضارتها، وسيما الكافرين سواد الوجوه وزرقة العيون {ونادوا} أي أصحاب الأعراف {أصحاب الجنّة أن سلامٌ عليكم} أنه سلام أو أي سلام وهو تهنئة منهم لأهل الجنة {لم يدخلوها} أي أصحاب الأعراف ولا محل له لأنه استئناف كأن سائلاً سأل أصحاب الأعراف فقيل {لم يدخلوها} {وهم يطمعون} في دخولها أوله محل وهو صفة ل {رجال}.
{وإذا صرفت أبصارهم} أبصار أصحاب الأعراف، وفيه أن صارفاً يصرف أبصارهم لينظروا فيستعيذوا {تلقآء} ظرف أي ناحية {أصحاب النّار} ورأوا ما هم فيه من العذاب {قالوا ربّنا لا تجعلنا مع القوم الظّالمين} فاستعاذوا بالله وفزعوا إلى رحمته أن لا يجعلهم معهم {ونادى أصحاب الأعراف رجالاً} من رءوس الكفرة {يعرفونهم بسيماهم قالوا مآ أغنى عنكم جمعكم} المال أو كثرتكم واجتماعكم و{ما} نافية {وما كنتم تستكبرون} واستكباركم على الحق وعلى الناس ثم يقولون لهم:
{أهؤلاء} مبتدأ {الّذين} خبر مبتدأ مضمر تقديره أهؤلاء هم الذين {أقسمتم} حلفتم في الدنيا، والمشار إليهم فقراء المؤمنين كصهيب وسليمان ونحوهما {لا ينالهم اللّه برحمةٍ} جواب {أقسمتم} وهو داخل في صلة {الذين} تقديره أقسمتم عليهم بأن لا ينالهم الله برحمة أي لا يدخلهم الجنة يحتقرونهم لفقرهم. فيقال لأصحاب الأعراف: {ادخلوا الجنّة} وذلك بعد أن نظروا إلى الفريقين وعرفوهم بسيماهم وقالوا ما قالوا {لا خوفٌ عليكم ولا أنتم تحزنون وناداى أصحاب النّار أصحاب الجنّة أن أفيضوا علينا من المآء} أن مفسرة.
وفيه دليل على أن الجنة فوق النار {أو ممّا رزقكم اللّه} من غيره من الأشربة لدخوله في حكم الإفاضة، أو أريد أو ألقوا علينا مما رزقكم الله من الطعام والفاكهة كقوله:
علفتها تبناً وماءاً بارداً ***
أي وسقيتها وإنما سألوا ذلك مع يأسهم عن الإجابة لأن المتحير ينطق بما يفيد وما لا يفيد {قالوآ إنّ اللّه حرّمهما على الكافرين} هو تحريم منع كما في {وحرمنا عليه المراضع} [القصص: 12] وتقف هنا إن رفعت أو نصبت ما بعده ذماً، وإن جررته وصفاً للكافرين فلا. {الّذين اتّخذوا دينهم لهواً ولعباً} فحرموا وأحلوا ما شاءوا أو دينهم عيدهم {وغرّتهم الحياة الدّنيا} اغتروا بطول البقاء {فاليوم ننساهم} نتركهم في العذاب {كما نسوا لقآء يومهم هذا وما كانوا بئاياتنا يجحدون} أي كنسيانهم وجحودهم.
{ولقد جئناهم بكتابٍ فصّلناه} ميزنا حلاله وحرامه ومواعظه وقصصه {على علمٍ} عالمين بكيفية تفصيل أحكامه {هدًى ورحمةً} حال من منصوب {فصلناه} كما أن {على علم} حال من مرفوعة {لّقومٍ يؤمنون هل ينظرون} ينتظرون {إلاّ تأويله} إلا عاقبة أمره وما يؤول إليه من تبين صدقه وظهور صحة ما نطق به من الوعد والوعيد {يوم يأتي تأويله يقول الّذين نسوه من قبل} تركوه وأعرضوا عنه {قد جآءت رسل ربّنا بالحقّ} أي تبين وصح أنهم جاءوا بالحق فأقروا حين لا ينفعهم {فهل لّنا من شفعآء فيشفعوا لنآ} جواب الاستفهام {أو نردّ} جملة معطوفة على الجملة قبلها داخلة معها في حكم الاستفهام كأنه قيل: فهل لنا من شفعاء، أو هل نرد؟ ورافعه وقوعه موقعاً يصلح للاسم كقولك ابتداء: (هل يضرب زيد)، أو عطف على تقدير: هل يشفع لنا شافع أو هل نرد {فنعمل} جواب الاستفهام أيضاً {غير الّذي كنّا نعمل قد خسروآ أنفسهم وضلّ عنهم مّا كانوا يفترون} ما كانوا يعبدونه من الأصنام.
{إنّ ربّكم اللّه الّذي خلق السّماوت والأرض في ستّة أيّامٍ} أراد السموات والأرض وما بينهما وقد فصلها في (حم السجدة) أي من الأحد إلى الجمعة لاعتبار الملائكة شيئاً فشيئاً، وللإعلام بالتأني في الأمور، ولأن لكل عمل يوماً، ولأن إنشاء شيء بعد شيء أدل على عالم مدبر مريد يصرّفه على اختياره ويجريه على مشيئته {ثمّ استوى} استولى {على العرش} أضاف الاستيلاء إلى العرش وإن كان سبحانه وتعالى مستولياً على جميع المخلوقات، لأن العرش أعظمها وأعلاها. وتفسير العرش بالسرير والاستواء بالاستقرار كما تقوله المشبهة باطل، لأنه تعالى كان قبل العرش ولا مكان وهو الآن كما كان، لأن التغير من صفات الأكوان. والمنقول عن الصادق والحسن وأبي حنيفة ومالك رضي الله عنهم، أن الاستواء معلوم، والتكييف فيه مجهول، والإيمان به واجب، والجحود له كفر، والسؤال عنه بدعة. {يغشى الّيل النّهار} {يغشى} حمزة وعلي وأبو بكر.
أي يلحق الليل بالنهار والنهار بالليل {يطلبه حثيثاً} حال من الليل أي سريعاً. والطالب هو الليل كأنه لسرعة مضيه يطلب النهار {والشّمس والقمر والنّجوم} أي وخلق الشمس والقمر والنجوم {مسخّراتٍ} حال أي مذللات {والشمس والقمر والنجوم مسخراتٌ} شامي {والشمس} مبتدأ والبقية معطوفة عليها والخبر {مسخرات} {بأمره} هو أمر تكوين. ولما ذكر أنه خلقهن مسخرات بأمره قال: {ألا له الخلق والأمر} أي هو الذي خلق الأشياء وله الأمر {تبارك اللّه} كثر خيره أو دام بره من البركة النماء أو من البروك الثبات ومنه البركة {ربّ العالمين}.
{ادعوا ربّكم تضرّعاً وخفيةً} نصب على الحال أي ذوي تضرع وخفية، والتضرع تفعل من الضراعة وهي الذل أي تذللاً وتملقاً. قال عليه السلام: «إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنما تدعون سميعاً قريباً إنه معكم أينما كنتم» عن الحسن: بين دعوة السر والعلانية سبعون ضعفاً. {إنّه لا يحبّ المعتدين} المجاوزين ما أمروا به في كل شيء من الدعاء وغيره. وعن ابن جريج: الرافعين أصواتهم بالدعاء. وعنه: الصياح في الدعاء مكروه وبدعة. وقيل: هو الإسهاب في الدعاء. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «سيكون قوم يعتدون في الدعاء، وحسب المرء أن يقول: اللهم إني أسألك الجنة وما قرّب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل» ثم قرأ {إنه لا يحب المعتدين} {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} أي بالمعصية بعد الطاعة، أو بالشرك بعد التوحيد، أو بالظلم بعد العدل {وادعوه خوفاً وطمعاً} حالان أي خائفين من الرد طامعين في الإجابة، أو من النيران وفي الجنان، أو من الفراق وفي التلاق، أو من غيب العاقبة وفي ظاهر الهداية، أو من العدل وفي الفضل {إنّ رحمت اللّه قريبٌ مّن المحسنين} ذكر قريب على تأويل الرحمة بالرحم أو الترحم، أو لأنه صفة موصوف محذوف أي شيء قريب، أو على تشبيهه بفعيل الذي هو بمعنى مفعول، أو لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي، أو للإضافة إلى المذكر.
{وهو الّذي يرسل الرّياح} {الريح} مكي وحمزة وعلي {بُشرا} {نشرا} حمزة وعلي. مصدر نشر، وانتصابه إما لأن أرسل ونشر متقاربان فكأنه قيل نشرها نشراً، وإما على الحال أي منشورات {بشرا} عاصم تخفيف (بشرا) جمع (بشير)، لأن الرياح تبشر بالمطر {نشراً} شامي تخفيف {نشر} كرسل ورسل وهو قراءة الباقين جمع (نشور) أي ناشرة للمطر {بين يدي رحمته} أمام نعمته وهو الغيث الذي هو من أجلّ النعم {حتى إذآ أقلّت} حملت ورفعت، واشتقاق الإقلال من القلة لأن الرافع المطيق يرى ما يرفعه قليلاً {سحاباً ثقالاً} بالماء جمع سحابة {سقناه} الضمير للسحاب على اللفظ ولو حمل على المعنى كالثقال لأنث كما لو حمل الوصف على اللفظ لقيل ثقيلاً {لبلدٍ مّيّتٍ}- ميت- لأجل بلد ليس فيه مطر ولسقيه {ميّت} مدني وحمزة وعلي وحفص {فأنزلنا به المآء} بالسحاب أو بالسوق وكذلك {فأخرجنا به من كلّ الثّمرات كذلك} مثل ذلك الإخراج وهو إخراج الثمرات {نخرج الموتى لعلّكم تذكّرون} فيؤديكم التذكر إلى الإيمان بالبعث إذ لا فرق بين الإخراجين، لأن كل واحد منهما إعادة الشيء بعد إنشائه {والبلد الطّيّب} الأرض الطيبة الترب {يخرج نباته بإذن ربّه} بتيسيره وهو موضع الحال كأنه قيل: يخرج نباتة حسناً وافياً لأنه واقع في مقابلة {نكدا} {والّذي خبث} صفة للبلد أي والبلد الخبيث {لا يخرجُ} أي نباته فحذف للاكتفاء {إلاّ نكداً} هو الذي لا خير فيه وهذا مثل لمن ينجع فيه الوعظ وهو المؤمن ولمن لا يؤثر فيه شيء من ذلك وهو الكافر، وهذا التمثيل واقع على أثر ذكر مثل المطر وإنزاله بالبلد الميت وإخراج الثمرات به على طريق الاستطراد {كذلك} مثل ذلك التصريف {نُصرّف الآيات} نرددها ونكررها {لقومٍ يشكرون} نعمة الله وهم المؤمنون ليتفكروا فيها ويعتبروا بها.


{لقد أرسلنا} جواب قسم محذوف أي والله لقد أرسلنا {نوحاً إلى قومه} أرسل وهو ابن خمسين سنة وكان نجاراً، وهو نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو اسم إدريس عليه السلام {فقال ياقوم اعبدوا اللّه ما لكم مّن إله غيره} {غيره} علي. فالرفع على المحل كأنه قيل: ما لكم إله غيره فلا تعبدوا معه غيره، والجر على اللفظ {إنى أخاف عليكم عذاب يومٍ عظيمٍ} يوم القيامة أو يوم نزول العذاب عليهم وهو الطوفان.
{قال الملأ} أي الأشراف والسادة {من قومه إنّا لنراك في ضلالٍ مّبينٍ} أي بين في ذهاب عن طريق الصواب، والرؤية رؤية القلب {قال يا قوم ليس بي ضلالةٌ} ولم يقل ضلال كما قالوا لأن الضلالة أخص من الضلال فكانت أبلغ في نفي الضلال عن نفسه كأنه قال: ليس بي شيء من الضلال. ثم استدرك لتأكيد نفي الضلالة فقال: {ولكنّي رسولٌ مّن رّبّ العالمين} لأن كونه رسولاً من الله مبلغاً لرسالاته في معنى كونه على الصراط المستقيم فكان في الغاية القصوى من الهدى {أبلّغكم رسالات ربّي} ما أوحي إلي في الأوقات المتطاولة أو في المعاني المختلفة من الأوامر والنواهي والمواعظ والبشائر والنظائر. {أبلغكم} أبو عمرو. وهو كلام مستأنف بيان لكونه رسول رب العالمين {وأنصح لكم} وأقصد صلاحكم بإخلاص. يقال نصحته ونصحت له، وفي زيادة اللام مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة. وحقيقة النصح إرادة الخير لغيرك مما تريده لنفسك أو النهاية في صدق العناية {وأعلم من اللّه ما لا تعلمون} أي من صفاته يعني قدرته الباهرة وشدة بطشه على أعدائه وأن بأسه لا يرد عن القوم المجرمين {أو عجبتم} الهمزة للإنكار والواو للعطف والمعطوف عليه محذوف كأنه قيل: أكذبتم وعجبتم {أن جآءكم} من أن جاءكم {ذكرٌ} موعظة {مّن رّبّكم على رجلٍ مّنكم} على لسان رجل منكم أي من جنسكم، وذلك أنهم كانوا يتعجبون من نبوة نوح عليه السلام ويقولون {ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين} يعنون إرسال البشر ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة {لينذركم} ليحذركم عاقبة الكفر {ولتتّقوا} ولتوجد منكم التقوى وهي الخشية بسبب الإنذار {ولعلّكم ترحمون} ولترحموا بالتقوى إن وجدت منكم {فكذّبوه} فنسبوه إلى الكذب {فأنجيناه والّذين معه} وكانوا أربعين رجلاً وأربعين امرأة وقيل تسعة: بنوه سام وحام ويافث، وستة ممن آمن به {في الفلك} يتعلق بمعه كأنه قيل: والذين صحبوه في الفلك {وأغرقنا الّذين كذّبوا بأياتنا إنّهم كانوا قوماً عمين} عن الحق. يقال أعمى في البصر وعمٍ في البصيرة.
{وإلى عادٍ} وأرسلنا إلى عاد وهو عطف على {نوحا} {أخاهم} واحداً منهم من قولك (يا أخا العرب) للواحد منهم.
وإنما جعل واحداً منهم لأنهم عن رجل منهم أفهم فكانت الحجة عليهم ألزم {هوداً} عطف بيان ل {أخاهم} وهو هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح {قال ياقوم اعبدوا اللّه ما لكم مّن إله غيره أفلا تتّقون} وإنما لم يقل {فقال} كما في قصة نوح عليه السلام لأنه على تقدير سؤال سائل قال: فما قال لهم هود؟ فقيل: {قال يا قوم اعبدوا اللّه} وكذلك {قال الملأ الّذين كفروا من قومه} وإنما وصف الملأ بالذين كفروا دون الملأ من قوم نوح لأن في أشراف قوم هود من آمن به منهم مرثد بن سعد فأريدت التفرقة بالوصف، ولم يكن في أشراف قوم نوح عليه السلام مؤمن {إنّا لنراك في سفاهةٍ} في خفة حلم وسخافة عقل حيث تهجر دين قومك إلى دين آخر. وجعلت السفاهة ظرفاً مجازاً يعني أنه متمكن فيها غير منفك عنها {وإنّا لنظنّك من الكاذبين} في ادعائك الرسالة.
{قال يا قوم ليس بي سفاهةٌ ولكنّي رسولٌ مّن رّبّ العالمين أبلّغكم رسالات ربّي وأنا لكم ناصحٌ} فيما أدعوكم إليه {أمينٌ} على ما أقول لكم. وإنما قال هنا {وأنا لكم ناصح أمين} لقولهم {وإنا لنظنك من الكاذبين} أي ليقابل الاسم الاسم، وفي إجابة الأنبياء عليهم السلام من ينسبهم إلى الضلالة والسفاهة بما أجابوهم به من الكلام الصادر عن الحلم والإغضاء وترك المقابلة بما قالوا لهم مع علمهم بأن خصومهم أضل الناس وأسفههم، أدب حسن وخلق عظيم، وإخبار الله تعالى ذلك تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء وكيف يغضون عنهم ويسلبون أذيالهم على ما يكون منهم {أو عجبتم أن جآءكم ذكرٌ مّن رّبّكم على رجلٍ مّنكم لينذركم واذكروآ إذ جعلكم خلفآء من بعد قوم نوحٍ} أي خلفتموهم في الأرض أو في مساكنهم. و{إذ} مفعول به وليس بظرف أي اذكروا وقت استخلافكم {وزادكم في الخلق بصطةً} طولاً وامتداداً فكان أقصرهم ستين ذراعاً وأطولهم مائة ذراع {بصطة}: حجازي وعاصم وعلي {فاذكروا ءالاء اللّه} في استخلافكم وبسطة أجرامكم وما سواهما من عطاياه. وواحد الآلاء (إلى) نحو (إنى) و(آناء) {لعلّكم تفلحون}.
ومعنى المجيء في {قالوا أجئتنا} أن يكون لهود عليه السلام مكان معتزل عن قومه يتحنث فيه كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء قبل المبعث، فلما أوحي إليه جاء قومه يدعوهم {لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد ءابآؤنا} أنكروا واستبعدوا اختصاص الله وحده بالعبادة وترك دين الآباء في اتخاذ الأصنام شركاء معه حباً لما نشئوا عليه {فأتنا بما تعدنآ} من العذاب {إن كنت من الصّادقين} أن العذاب نازل بنا {قال قد وقع} أي قد نزل {عليكم} جعل المتوقع الذي لا بد من نزوله بمنزلة الواقع كقولك لمن طلب إليك بعض المطالب {قد كان} {مّن رّبّكم رجسٌ} عذاب {وغضبٌ} سخط {أتجادلونني في أسمآء سمّيتموهآ} في أشياء ما هي إلا أسماء ليس تحتها مسميات لأنكم تسمون الأصنام آلهة وهي خالية عن معنى الألوهية {أنتم وءابآؤكم مّا نزّل الله بها من سلطانٍ} حجة {فانتظروآ} نزول العذاب {إنّي معكم مّن المنتظرين} ذلك.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6